بين أوّل الشهادة السودانية عام 1964م وأوّلها عام 2009م

الأحد، 28 فبراير 2010

أوّل الشهادة السودانية عام 1964م لم يعرف أنه الأول إلا بعد شهرين من ظهور النتيجة، وأول الشهادة السودانية عام 2009م، ظهر على شاشة التلفزيون بعد المؤتمر الصحفي مباشرة. أقل من نصف قرن بنصف عقد من الزمان هي المدة التي تفصل بين فرحتين مختلفين في ظروف مختلفة تماماً. أول الشهادة السودانية عام 1964م، البروفيسور محمد أحمد الشيخ، أخصائي النساء والولادة، والذي تقلّد عدة مناصب منها إدارة جامعة الخرطوم، وهو القروي الآتي من مدرسة خورطقت الثانوية، كانت الخرطوم تعتبر نقلة كبيرة له عندما أتاها لأول مرة للدراسة الجامعية، وأوّل الشهادة السودانية عام 2009م، محمد الفاتح البشير، وُلد في لندن وتلقى بعضاً من تعليمه في السعودية، ويسكن حي المهندسين في أم درمان.قال البروفيسور محمد أحمد الشيخ في مقابلة مع جريدة "الصحافة" نشرتها يوم الاثنين الخامس عشر من يونيو الحالي: "في ذلك الوقت لا يوجد تلفزيون في كل أنحاء البلاد، وتذاع النتيجة عن طريق الراديو فقط وهو لم يكن متوفراً في القرية التي انحدر منها، وكان يوجد بها اثنان أو ثلاثة فقط، أحدهم ترانزيستور وهو بحوزة المساعد الطبي والآخر يعمل ببطارية كبيرة وهوائي عالي. كانت تربطنا علاقة طيبة مع المساعد الطبي وقررنا أن نتجمع عند لسماع النتيجة بعد أن علمنا بأنها ستذاع في ذلك اليوم، لكن لحضورنا المتأخر تمت إذاعة العشر الأوائل ولم أتمكن من سماع اسمي الذي كان أولاً."لم يشر البروفيسور محمد أحمد الشيخ في المقابلة المذكورة إلى أي احتفال أسري أقيم له، بل تحدث عن المفاجأة المدهشة عند دخوله إلى خورطقت من أجل السلام ووداع الأصدقاء والأساتذة، الذين استقبلوه، وخرج الناظر من مكتبه مستقبلا الطالب الذي لا يعلم ما قدمه لمدرسته من عرفان وفخر منذ شهرين.في الوقت الذي لم يعلم أول الشهادة السودانية عام 1964م أنه الأول على مستوى السودان إلا بعد شهرين، كان أوّل الشهادة السودانية عام 2009م حاضراً في الإعلام ليس على مستواه الشخصي بل أسرته أيضاً، فعرفنا في نفس اليوم، بل في الساعات الأولى من إعلان النتيجة، أين يسكن، وأنه يشجع فريق الهلال، ويخطط ليصبح مهندساً، ويحب الكمبيوتر ووالده طبيب في السلاح الطبي، وأخته كانت ثالثة الشهادة السودانية قبل أربع سنوات، وأنه تلقى وعداً من والده بإهدائه سيارة إذا ما أحرز المرتبة الأولى. أقل من نصف قرن بخمس سنوات هي المدة الفاصلة بين إعلان أول الشهادة السودانية عام 1964م، وأول الشهادة السودانية عام 2009م. وفي ظني أن وجه المقارنة جدير بالتأمّل، ليس على مستوى أوائل الشهادة في العامين المذكورين، وإنما على مستوى الحالة التعليمية في بلادنا بصورة عامة. كانت مدارس خور طقت ووادي سيدنا وحنتوب تمثّل الريادة في مصاف المدارس الثانوية في ذاك الزمان، ولعلني لا أبالغ إن قلت أنها تمثّل أكسفورد أو كمبريدج بالنسبة للمدارس الثانوية الحالية، ولولا بعض حياء لقلت بالنسبة للكثير من جامعاتنا في الوقت الراهن.في ذلك الزمان كانت المدرسة هي كل شيء بالنسبة للطالب، وقامت المدارس بدور التربية والتعليم وحتى الإعاشة. لم يكن هناك دور لمعظم الأسر في توجيه أبنائهم وتشجيعهم للدراسة والتحصيل، بل إن بعض الأسر ربما كانت تتمنى لو يترك ابنها الدراسة لمساعدة رب الأسرة في الزراعة أو الرعي أو التجارة. دعونا نضع هذا الواقع ونقارنه بالاهتمام الذي أصبحت توليه معظم الأسر من أجل تعليم أبنائها واعتباره من الأولويات مثله مثل توفير المأكل والملبس والمسكن. المدارس هي الأخرى لم تعد تقوم بذاك الدور الذي كانت تقوم به في السابق، وأصبح التعليم يعتمد على الأسرة في الكثير من جوانبه. وعندما أتأمل أحوال الذين تفوقوا في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، أقول في نفسي: هل كانوا سيكونون من المتفوقين إذا ما كانوا بنفس انتماءاتهم الأسرية و الجغرافية اليوم؟ لا أظن ذلك ففي عالم اليوم أصبح وضع الأسرة ومستواها التعليمي والمادي وموقعها الجغرافي في خارطة الوطن من مؤشرات تفوق أبنائها.. فتأملوا!!!لا أدعي أن الطالب بالأمس كان أفضل، ولكن أقول أن الواقع يقول أن الطالب بالأمس كان يتعامل مع ظروف مختلفة تحيط جميعها به حتى على مستوى الأسرة ومعظمها تثبط من همته وتدعوه ليل نهار لترك مقاعد الدراسة، أو الاكتفاء بمستوى معين من التعليم والانخراط في الوظيفة الحكومية. طالب اليوم، بصورة عامة، وفرت له أسرته كل شيء وسعت لراحته واهتمت بتحصيله وأدخلته المدارس الخاصة وجلبت له من يعينه على فهم الدروس، ولكن هذا الطالب، للأسف، لم يكن أبداً – إلا ما رحم ربي- في مستوى هذا الجهد الذي بُذل من أجله!! لا أحد يُنكر أن التوسع في التعليم قد ساهم في إتاحة الفرص للكثيرين لتلقى تعليمهم، وانتشرت المدارس في أصقاع نائية من البلاد، إلا أن ما صاحب ذلك من ضعف وتردٍ واضح في مخرجاته، تجعل التهليل والتكبير بحمده بدعة كان ينبغي أن توجه لمناقشة ودراسة أسباب التردي والضعف والعمل على القضاء عليها، ولعل أولها انحسار منافسة طلاب الأقاليم بصورة واضحة في الدخول للجامعات وخاصة كليات الطب والصيدلة والهندسة، وانحصار ذلك في طلاب ولاية الخرطوم وبين المدارس النموذجية و الخاصة.رفع الدول يدها عن التعليم الحكومي سيبقى من الأخطاء الكبيرة التي ينبغي الاعتراف بها والرجوع عنها. وقد بدا للمتابعين أن الدكتور حامد محمد إبراهيم، وزير التربية والتعليم قد اعترف بشيء من قصور أداء وزارته وهو يتحدث في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه نتيجة الشهادة السودانية لهذا العام 2009م، في الرابع عشر من يونيو الجاري. فالوزارة تعاني من الإهمال و التجاهل من قبل ميزانية الدولة، وطلاب هذه المدارس تقف قلة ذات اليد دونهم والتحاقهم بالمدارس الخاصة التي تملأ شاشات التلفزيون بإعلانات عن فصول مكيفة ومدرسين أكفاء، وترحيل وأعداد محدودة من الطلاب في الفصول. وقد اعترف السيد الوزير بتدن مستويات الطلاب في مواد الحاسوب والكيمياء والفيزياء وذلك لقلة المعامل والأجهزة.وإذا كانت هذه حال مدارسنا التي ينبغي أن ترعاها الدولة، فلماذا نلقي باللوم هنا وهناك على ضعف مخرجات تعليمنا الجامعي، وتردي البنيات الأساسية في جامعاتنا، مما أضعف من مستوى وجودة البحوث العلمية. ولماذا لا يكون مستوى البحث العلمي عندنا ضعيف وذو جودة متدنية، ونحن نرى الميزانيات المتواضعة التي تخصص له؟ وفي هذا الصدد أشارت إحدى الدراسات الحديثة إلى أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في السودان لا تتجاوز 0.03 في المائة من الدخل القومي!!! بعد كل هذا ربما نجد بعض العذر لهذه الدولة أو تلك إن هي أعلنت تحفظها على الاعتراف بالشهادات التي تصدرها مؤسساتنا التعليمية.

0 التعليقات: